فصل: تفسير الآيات (168- 169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (167):

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}
{تَأَذَّنَ رَبُّكَ} عزم ربك، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام؛ لأنّ العازم على الأمر يحدّت نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله: {لَيَبْعَثَنَّ} والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود {إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطنّ عليهم، كقوله: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد} [الأسراء: 5].

.تفسير الآيات (168- 169):

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}
{وقطعناهم فِي الارض أُمَمًا} وفرّقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم {مّنْهُمُ الصالحون} الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة.
فإن قلت: ما محل دون ذلك؟ قلت: الرفع، وهو صفة لموصوف محذوف، معناه: ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 64] بمعنى: وما منا أحد إلاّ له مقام {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} بالنعم والنقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فينيبون {فَخَلَفَ} من بعد المذكورين {خَلْفٌ} وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرِثُواْ الكتاب} التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وفاعل {سَيُغْفَرُ} الجار والمجرور، وهو {لَنَا} ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الواو للحال، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصحّ إلاّ بالتوبة، والمصر لا غفران له {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} يعني قوله في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلاّ بالتوبة {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.
وعن مالك بن دينار رحمه الله، يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئاً، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية {والدار الآخرة خَيْرٌ} من ذلك العرض الخسيس {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الرشا ومحارم الله. وقرئ: {ورثوا الكتاب}، (وإلاّ تقولوا)، بالتاء. وادّارسو، بمعنى تدارسوا. وأفلا تعقلون، بالياء والتاء.
فإن قلت: ما موقع قوله: {أَلا يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}؟ قلت: هو عطف بيان لميثاق الكتاب. ومعنى ميثاق الكتاب. الميثاق المذكور في الكتاب. وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله. وتقوّل عليه ما ليس بحق. وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان {أَن لاَّ يِقُولُواْ} مفعولاً له. ومعناه: لئلا يقولوا. ويجوز أن تكون {أَن} مفسرة، و{لاَ تَقُولُواْ} نهياً، كأنه قيل: ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلاّ الحق؟ فإن قلت: علام عطف قوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}؟ قلت: على {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم}، لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.

.تفسير الآية رقم (170):

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
{والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم؛ لأنّ المصلحين في معنى الذين يمسكون بالكتاب، كقوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] والثاني: أن يكون مجروراً عطفاً على الذين يتقون، ويكون قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} اعتراضاً. وقرئ: {يمسكون} بالتشديد. وتنصره قراءة أبيّ: {والذين مسكوا بالكتاب}، فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهار لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقه بين الكفر والإيمان.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: {والذين استمسكوا بالكتاب}.

.تفسير الآية رقم (171):

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}
{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} قلعناه ورفعناه، كقوله: {ورفعنا فوقهم الطور}. ومنه: نتق السقاء، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أطل عليه إذا أشرف {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة. لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ.
وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله. لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلاّ اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه {خُذُواْ مَا ءاتيناكم} على إرادة القول. أي: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب {بِقُوَّةٍ} وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه {واذكروا مَا فِيهِ} من الأوامر والنواهي ولا تنسوه، أو اذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه، كقوله: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض} [الرحمن: 33] فانفذوا. {واذكروا مَا فِيهِ} من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما أنتم عليه.
وقرأ ابن مسعود: {وتذكروا} وقرئ: {واذّكروا}، بمعنى وتذكروا.

.تفسير الآيات (172- 174):

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
{مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من بني آدم بدل البعض من الكل. ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم. قوله: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} من باب التمثيل والتخييل!ا ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام، وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وقوله:
إِذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ** قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَارِ

ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى {وأَن تَقُولُواْ} مفعول له، أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} لم ننبه عليه {أو} كراهة {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذرية من بعدهم} فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. كما لا عذر لآبائهم في الشرك- وأدلة التوحيد منصوبة لهم- فإن قلت: بنو آدم وذرّياتهم من هم؟ قلت: عنى ببني آدم: أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبذرياتهم: الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم. والدليل على أنها من المشركين وأولادهم: قوله: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ} والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية} [الأعراف: 163]، {وإِذْ قَالَتِ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ} [الأعراف: 164]، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الأعراف: 167]، {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171]. {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا} [الأعراف: 175]. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} أي كانوا السبب في شركنا؛ لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنة لنا {وكذلك} ومثل ذلك التفصيل البليغ {نُفَصّلُ الآيات} لهم {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ: {ذريتهم} على التوحيد. وأن يقولوا: بالياء.

.تفسير الآيات (175- 176):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
{واتل عَلَيْهِمْ} على اليهود {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا} هو عالم من علماء بني إسرائيل. وقيل: من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله {فانسلخ مِنْهَا} من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له. أو فأتبعه خطواته. وقرئ: {فاتبعه} بمعنى فتبعه {فَكَانَ مِنَ الغاوين} فصار من الضالين الكافرين. روي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا} لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة.
فإن قلت: كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع قلت المعنى. ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض} فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون {وَلَوْ شِئْنَا} في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} فصفته التي هي مثل في الخسّة والضعة كصفة الكلب في أخسّ أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه- أي شدّ عليه وهيج فطرد- أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلاّ إذا هيج منه وحرّك، وإلاّ لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} موضع حططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنه، الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. وقيل: معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث.
فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب {ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} من اليهود بعد ما قرؤا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به {فاقصص} قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيحذرون مثل عاقبته، إذا ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم.